فصل: تفسير الآيات (1- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الدخان:

.تفسير الآيات (1- 9):

{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}
يقول الحق جلّ جلاله: {حم} يا محمد {و} حق {الكتاب المبين} الواضح البيِّن، وجواب القسم: {إِنا أَنزلناه} أي: الكتاب الذي هو القرآن {في ليلة مباركةٍ} ليلة القدر، أو ليلة النصف من شعبان، والجمهور على الأول، لقوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185]، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان، وسيأتي الجمع بينهما. ثم قيل: أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل نجوماً، على حسب الوقائع، في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: معنى نزوله فيها: ابتداء نزوله.
والمباركة: الكثيرة الخير؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة، والمنافع الدينية والدنيوية، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
{إِنا كنا منذِرينَ} استئناف مبين لما يقتضي الإنزال، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب، {فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم} استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال، أي: إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة، لأنها فيها يُفرق كل أمر حكيم، أي: ذي حكمة بالغة، ومعنى {يُفرق}: يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة، وقيل: الضمير في {فيها} يرجع لليلة النصف، على الخلاف المتقدم.
وروى أبو الشيخ، بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} قال: «ليلة النصف من شعبان، يُدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره؛ الشقاوة والسعادة، والموت والحياة». قال السيوطي: سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه. اهـ. وروي عن ابن عباس: قال: إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر. وفي رواية: ليلة السابع والعشرين من رمضان، قيل: وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان. والله أعلم.
وقوله تعالى: {حكيم} الحكيم: ذو الحكمة، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، في هذه الليلة، يدلّ على حكمة بالغة؛ فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً، إسناداً مجازياً. وقوله: {أمراً من عندنا} منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، وهو بيان لفخامته الإضافية، بعد بيان فخافمته الذاتية، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر؛ لتخصيصه بالوصف، {إِنا كنا مرسِلين} بدل من {إنا كنا منذرِين}.
و{رحمةً من ربك} مفعول له، أي: أنزلنا القرآن؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل باكتب؛ لأجل إفاضة رحمتنا. ووضع الرب موضع الضمير، والأصل: رحمة منا؛ للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته.
وقال الطيبي: هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل؛ فكأنه لما قيل: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} قيل: فلِمَ أُنزل؟ فأجيب: لأن من شأننا التحذير والعقاب، فقيل: لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل: لأنه من الأمور المُحكَمة، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، فقيل: لِمَ كان من الأمور المُحكَمة؟ فأجيب: لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً، لكونه للعالمين نذيراً، أو {داعياً إلى الله بإذنه...} الآية، فقيل: لماذا رحمهم الرب بذلك؟ فأجيب: لأنه وحده سميع عليم، يعلم جريان أحوال عباده، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى. اهـ. وهذا معنى قوله: {إِنه هو السميع} لأقوالهم وحده، {العليم} بأحوالهم.
{ربِّ السماوات والأرض وما بينهما} مَن جرّه بدر من ربك، ومَن رفعه خبر من ضمر، أي: هو رب العوالم العلوية والسفلية، وما بينها، {إِن كنتم موقنين} أي: من أهل الإيقان، ومعنى الشرط، أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك.
{لا إِله إِلا هو} مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ، لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله تعالى ويشركون معه غيره، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره، {يُحيي ويُميت} ثم يبعث للجزاء، {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} أي: هو رب الجميع، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: {بل هم في شك يلعبون} وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: {حم}، قال الورتجبي: الحاء: الوحي الخاص إلى محمد، والميم: محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر، لا يطلع على ذلك- الذي بين المحب والمحبوب- أحد من خلق الله، ألا ترى كيف قال سبحانه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} [النجم: 10]؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر، وجملتها قسم، أي بمعنى الوحي السري والمحبوب، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار، {إنا أنزلناه}. اهـ. قال القشيري: الحاء تشير إلى حقِّه، والميم إلى محبته، ومعناه: بحقي ومحبتي لعبادي، وكتابي العزيز إليهم، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي. اهـ.
والليلة المباركة عند القوم، هي ليلة الوصال والاتصال، حين يُمْتَحى وجودُهم، ويتحقق فناؤهم، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم، ويفقدون وجودهم؛ فهو مبارك، وهو ليلة القدر عندهم، فإذا دام اتصالهم، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر، وكلها مباركة. قال الورتجبي: قوله تعالى: {في ليلة مباركة} كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية، والرحمة غالبة فيها، ومن جملتها: إنزال القرآن فيها؛ فإنه افتتاح وصلة لأهل القرية. اهـ.
قال القشيري: وسمّاها ليلة مباركة؛ لأنها ليلة افتتاح الوصلة، وأشدُّ الليالي بركةً، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه، مشاهداً لربه، يتنسّم بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا، وأنشدوا:
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي ** أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ

لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ ** طالَ وإن زار فلَيْلي قَصيرُ

. اهـ.
أي: لَيْلِي كما شاء المحبوب، فإن لم يزرني طال ليلِي، وإن زارني قَصُر. والحاصل: أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة، وأوقات الجلال كلها طويلة، وقوله تعالى: {فيها يُفرق كل أمر حكيم} أي: في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية، بلا واسطة، بل أمراً من عندنا، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب، ويسمونها ليلة القدر.
وقوله تعالى: {إِنّا كنا مرسلين رحمةً من ربك} هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنا الرحمة المهداة»، فرحمة مفعول به، {إِنه هو السميع العليم} قال القشيري: السميع لأنين المشتاقين، العليم بحنين المحبين. اهـ. {لا إِله إلا هو} أي: لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو، {يُحيي ويميت} يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله: {بل هم في شك يلعبون} وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون، ومن روح وصاله يتنسّمون. قال القشيري: واللعب يجري على غير ترتيب، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 16):

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فارتقبْ} فنتظر {يوم تأتي السماءُ بدُخان مبين} قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن رضي الله عنهم: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار، ليس فيه خِصاص، ويؤيد هذا حديث حذيفة: «أول الآيات الدخان، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن، تسوق الناس إلى الحشر، تقيل معهم إذا قالوا...» الحديث، انظر الثعلبي.
وأنكر هذا ابن مسعود، وقال: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء. ويؤيده ما يأتي بعده. وقوله: {مبين} أي: ظاهر لا يشك أحد أنه دخان، {يغشى الناسَ} أي: يحيط بهم، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ، ويسمع كلامه، ولا يراه من الدخان، أي: انتظر يوم شدة ومجاعة؛ فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان، إما لضعف بصره، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار، أو كثرة الغبار، {هذا عذابٌ أليم} أي: قائلين هذا عذاب أليم.
ولما اشتد بهم القحط، مشى أبو سفيان، ونفر معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله تعالى والرحم، وواعدوه إن دعا لهم، وكشف عنهم، أن يؤمنوا، وذلك قوله تعالى: {ربنا اكشف عنا العذاب إِنا مؤمنون} أي: سنؤمن إن كُشف عنا العذاب، قال تعالى: {أنَّى لهم الذكرَى} أي: كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، {وقد جاءهم رسول مبين} أي: والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه، حيث جاءهم رسول عظيم لشأن، بيِّن البرهان، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صُمّ الجبال.
{ثم تَولوا عنه} أي: عن ذلك الرسول، بعدما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، {وقالوا} في حقه عليه السلام: {مُعَلَّمٌ مجنون} أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: {إِنا كاشفوا العذاب قليلاً} أي: زمناف قليلاً، أو كشفاً قليلاً، {إِنكم عائدون} إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، {يوم نبطشِ البطشةَ الكبرى} يوم بدر، أو يوم القيامة، {إِنا منتقمون} أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب {يوم نبطش} باذكر أو بما دلّ عليه {إنا منتقمون}، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبله.
الإشارة: {فارتقب} أيها العارف {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم:
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ ** وظلامُهُ في الناس سَارِ

الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ ** ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ

وقال آخر:
طَلَعتْ شَمْسُ مَن أُحبُّ بِليلٍ ** فَاسْتَنارَتْ فما تلاها غُروبُ

إِن شمسَ النَّهارِ تَغْربُ بِليلٍ ** وشَمسُ القُلوبِ لَيْسَت تغِيبُ

قال القَشيري: قيامة هؤلاء- أي الصوفية- مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان، مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت: وأحسن من عبارته أن تقول: وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد نبع الأسرار. ثم قال: وفي معناه قالوا:
فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى ** بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياة بباردِ.

. اهـ.
وقوله تعالى: {ربنا اكشف عنا العذاب} قال القشيري: وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق، وفي ذلك أنشدوا:
وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها ** سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب

فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق، وأنشدوا:
أَنْتَ البلاَءُ فكيف أرجوا كَشْفه ** إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي

. اهـ.
قلت: وأصرح منه قول الشاعر:
يا مَنْ عَذَابي عذبٌ في مَحَبَّته ** لاَ أشْتكِي منك لا صَدّاً ولا مَلَلا

وقول الجيلاني رضي الله عنه:
تَلَذُّ ليَ الآلامُ إِذ كنتَ مُسقِمي ** وَإن تَخْتبِرني فهي عِنْدي صنَائِعُ

تَحكَّمْ بما تَهْواه فيَّ فإنني ** فَقِيرٌ لِسلطانِ المحبة طائِعُ

قوله تعالى: {أنَّى لهم الذكرى} أي: كيف يتّعظ مَن تنكَّب عن صحبة الرجال، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم مَن يدعوهم إلى الكبير المتعال، فأنكروه، وقالوا: مُعَلَّمٌ مجنون، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلاً، حين يتوجهون إلينا، ويفزعون إلى بابنا، أو يسمعون مِن بعض أوليائنا، ثم تكثر عيهم الخواطر، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه، {يوم نبطش البطشة الكبرى} هي خطفة الموت، فلا ينفع يفها ندم ولا رجوع، بل يورثهم حزناً طويلاً، فلا يجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا.

.تفسير الآيات (17- 24):

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد فتنا قبلهم} قبل هؤلاء المشركين، {قومَ فرعون} أي: امتحانهم بإرسال موسى عليه السلام، أو: أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق، أو فعلنا بهم فعل المختبِر؛ ليظهر ما كان باطناً، {وجاءهم رسولٌ كريمٌ} موسى عليه السلام، أي: كريم على الله، أو على المؤمنين، أو في نفسه حسيب نسيب، لأن الله تعالى لم يبعث نبيّاً إلا من سادات قومه: {أنْ أدُّوا إِليَّ عبادَ الله} أي: بان أدُّوا إليّ، أي: ادفعوا عبادَ الله، وهم بنو إسرائيل، بأن ترسلوهم معي، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بني إسرائيل من يده، أو: بأن أدُّوا إليّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان، وقبول الدعوة، فالعباد على هذا عام. ف {إن} مفسرة؛ لأن مجيء الرسل لا يكون إلا بدعوة، وهي تتضمن القول، أو مخففة، أي: جاءهم بأن الشأن أدوا إليّ، و{عبادُ الله} على الأول: مفعول به، وعلى الثاني: منادى، {إِني لكم رسولٌ أمين} تعليل للأمر، أو لوجوب المأمور، أي: رسول غير ظنين، قد ائتمنني الله على وحيه، وصدّقني بالمعجزات القاهرة.
{وأن لا تعلوا على الله} أي: لا تتكبّروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو: لا تتكبروا على نبيّ الله، {إِني آتيكم} من جهته تعالى {بسلطانٍ مبين} بحجة واضحة، لا سبيل إلى إنكارها، تدل على نبوتي، وفي إيراد الأداء مع الأمين، والسلطان مع العلو، من الجزالة ما لا يخفى، {وإِني عُذْتُ بربي وربكم} أي: التجأت إليه، وتوكلتُ عليه، {أن ترجمون} من أن ترجمون، أي: تؤذونني ضرباً وشتماً، أو تقتلوني رجماً.
قيل: لما قال: {وأن لا تعلوا على الله} توعّدوه بالرجم، فتوكّل على الله، واعتصم به، ولم يُبال بما توعّدوه.
{وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلونِ} أي: وإن كابرتم ولم تُذعنوا لي، فلا مولاة بيني وبين مَن لا يؤمن، فتنحُّوا عني، أو: فخلُّوني كفافاً لا لي ولا عليّ، ولا تتعرضوا لي بشرِّكم وأذاكم، فليس ذلك جزاء مَن دعاكم إلى ما فيه فلا حُكم، قال أبو السعود: وحَمْلُه على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم، يأباه المقام.
{فدعا ربَّه} بعدما تمادوا على تكذيبه، شاكياً إلى ربه: {أَنَّ هؤلاء} أي: بأن هؤلاء، {قوم مجرمون} وهو تعريض بالدعاء عليهم، بذكر ما استوجبوه، ولذلك سمي دعاء، وقيل: كان دعاؤه،: اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم، وقيل: هو قوله: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] وقيل: قوله: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] وقُرئ بالكسر على إضمار القول. قال تعالى له بعدُ: {فأَسْرِ بعبادي ليلاً} والفاء تؤذن بشرط محذوف، أي: إن كان الأمر كما تقول {فأسْرِ بعبادي} بني إسرائيل {ليلاً إِنكُم مُتَّبعون} أي: دبّر الله أن تتقدموا، ويتبعكم فرعون وجنوده، فننجّي المتقدمين، ونغرف الباقين، {واترك البحر رَهْواً} ساكناً على حالته بعدما جاوزته، ولا تضربه بعصاك لينطبق، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته، قاراً على حالته، من انتصاب الماء كالطود العظيم، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً، ليدخله القبط، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم، فالرهو في كلام العرب: السكون، قال الشاعر:
طَيرٌ رَأَتْ بازياً نَضحَ الدُّعاءُ به ** وأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عيدِ

أي: ساكنة، وقيل: الرهو: الفرجة الواسعة، أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً، {إنهم جند مُغْرَقون} بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح، أي: لأنهم.
الإشارة: كل زمان له فراعين، يحبسون الناسَ عن طريق الله، وعن خدمته، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم، ويأمرهم بتخلية سبيلهم، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم، فإذا كُذّب الداعي، قال: وإن لم تؤمنوا فاعتزلون، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم، فيغرقون في بحر الهوى، ويهلكون في أودية الخواطر. وبالله التوفيق.